فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}.
هذه السورة مكية بلا خلاف، وعن عبد الله: الكهف، ومريم، وطه، والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي أي من قديم ما حفظت وكسبت من القرآن كالمال التلاد.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر {قل كل متربص فتربصوا} قال مشركو قريش: محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال وليس بصحيح، وإن صح ففيه بعد فأنزل الله تعالى {اقترب للناس حسابهم}، و{اقترب} افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو قرب كما تقول: ارتقب ورقب.
وقيل: هو أبلغ من قرب للزيادة التي في البناء. والناس مشركو مكة.
وقيل: عام في منكري البعث، واقتراب الحساب اقتراب وقته والحساب في اللغة إخراج الكمية من مبلغ العدد، وقد يطلق على المحسوب وجعل ذلك اقترابًا لأن كل ما هو آت وإن طال وقت انتظاره قريب، وإنما البعيد هو الذي انقرض أو هو مقترب عند الله كقوله: {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} أو باعتبار ما بقي من الدنيا فإنه أقصر وأقل مما مضى.
وفي الحديث: «بعثت أنا والساعة كهاتين» قال الشاعر:
فما زال من يهواه أقرب من غد ** وما زال من يخشاه أبعد من أمس

و{للناس} متعلق باقترب.
وقال الزمخشري: هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيدًا لإضافة الحساب إليهم كما تقول أزف للحي رحيلهم، الأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي رحيلهم ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقر توكيدًا عليك زيد حريص عليك، وفيك زيد راغب فيك ومنه قولهم: لا أبا لك لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة، وهذا الوجه أغرب من الأول انتهى يعني بقوله صلة أنها تتعلق باقترب، وأما جعله اللام تأكيدًا لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحدًا يقول ذلك، وأيضًا فيحتاج إلى ما يتعلق به ولا يمكن تعلقها بحسابهم لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه، وأيضًا فالتوكيد يكون متأخرًا عن المؤكد وأيضًا فلو أخر في هذا التركيب لم يصح.
وأما تشبيهه بما أورد سيبويه فالفرق واضح لأن عليك معمول لحريص، وعليك الثانية متأخرة توكيدًا وكذلك فيك زيد راغب فيك يتعلق فيك براغب، وفيك الثانية توكيد، وإنما غره في ذلك صحة تركيب حساب الناس.
وكذلك أزف رحيل الحي فاعتقد إذا تقدّم الظاهر مجرورًا باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب فيك زيد راغب فيك وليس مثله، وأمّا لا أبا لك فهي مسألة مشكلة وفيها خلاف، ويمكن أن يقال فيها ذلك لأن اللام جاورت الإضافة ولا يقاس على مثلها غيرها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة، وقد أمعنّا الكلام عليها في شرح التسهيل والواو في {وهم} واو الحال.
وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشيء والإعراض عنه متنافيان، لَكِن يجمع بينهما باختلاف حالين أخبر عنهم أولًا أنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم.
ثم أخبر عنهم ثانيًا أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك، والذكر هنا ما ينزل من القرآن شيئًا بعد شيء.
وقيل المراد بالذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره ووصفه بالحدوث إذا كان القرآن لنزوله وقتًا بعد وقت.
وسئل بعض الصحابة عن هذه الآية فقال محدث النزول محدث المقول.
وقال الحسن بن الفضل: المراد بالذكر هنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بدليل {هل هذا إلا بشر مثلكم} وقال: {قد أنزل الله إليكم ذكرًا رسولًا} وقد احتجت المعتزلة على حدوث القرآن بقوله: {محدث} وهي مسألة يبحث فيها في علم الكلام.
وقرأ الجمهور: {محدث} بالجر صفة لذكر على اللفظ، وابن أبي عبلة بالرفع صفة لذكر على الموضع، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال {من ذكر} إذ قد وصف بقوله: {من ربهم} ويجوز أن يتعلق {من ربهم} بيأتيهم.
و{استمعوه} جملة حالية وذو الحال المفعول في {ما يأتيهم} {وهم يلعبون} جملة حالية من ضمير {استمعوه} و{لاهية} حال من ضمير {يلعبون} أو من ضمير {استمعوه} فيكون حالًا بعد حال، واللاهية من قول العرب لهى عنه إذا ذهل وغفل يلهى لهيًا ولهيانًا، أي وإن فطنوا لا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقلوبهم.
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى {لاهية} بالرفع على أنه خبر بعد خبر لقوله: {وهم}.
و{النجوى} من التناجي ولا يكون إلا خفية فمعنى {وأسرّوا} بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون.
وقال أبو عبيد: {أسروا} هنا من الأضداد يحتمل أن يكون أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون أظهروه ومنه قول الفرزدق:
فلما رأى الحجاج جرد سيفه ** أسر الحروري الذي كان أضمرا

وقال التبريزي: لا يستعمل في الغالب إلاّ في الإخفاء، وإنما {أسروا} الحديث لأنه كان ذلك على طريق التشاور، وعادة المتشاورين كتمان سرهم عن أعدائهم، وأسروها ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين إن ما تدعونه حقًّا فأخبرونا بما أسررناه وجوزوا في إعراب {الذين ظلموا} وجوهًا الرفع والنصب والجر، فالرفع على البدل من ضمير {وأسروا} إشعارًا أنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به قاله المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه أو على أنه فاعل، والواو في {أسروا} علامة للجمع على لغة أكلوني البراغيث قاله أبو عبيدة والأخفش وغيرهما. قيل وهي لغة شاذة.
قيل: والصحيح أنها لغة حسنة، وهي من لغة أزدشنوءة وخرج عليه قوله: {ثم عموا وصموا كثير منهم}.
وقال شاعرهم:
يلومونني في اشتراء ** النخيل أهلي وكلهم ألوم

أو على أن {الذين} مبتدأ {وأسروا النجوى} خبره قاله الكسائي فقدّم عليه، والمعنى: وهؤلاء {أسروا النجوى} فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلًا على فعلهم أنه ظلم، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول: {الذين ظلموا} والقول كثيرًا يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم.
وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا.
وقيل: {الذين} خبر مبتدأ محذوف، أي هم {الذين} والنصب على الذم قاله الزجاج، أو على إضمار أعني قاله بعضهم.
والجر على أن يكون نعتًا للناس أو بدلًا في قوله: {اقترب للناس} قاله الفراء وهو أبعد الأقوال.
{هل هذا إلاّ بشر مثلكم} استفهام معناه التعجب أي كيف خص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلاّ ملكًا.
و{أفتأتون السحر} استفهام معناه التوبيخ و{السحر} عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن والذكر المتلو عليهم، أي أفتحضرون {السحر وأنتم تبصرون} أنه سحر وأن من أتى به هو {بشر مثلكم} فكيف تقبلون ما أتى به وهو سحر، وكانوا يعتقدون أن الرسول من عند الله لا يكون إلا ملكًا وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر، وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله: {وأسروا النجوى} وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى.
وقال الزمخشري: في محل النصب بدلًا من {النجوى} أي {وأسروا} هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرًا انتهى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{اقترب لِلنَّاسِ حسابهم}.
مناسبةُ هذه الفاتحةِ الكريمة لما قبلها من الخاتمة الشريفة غنيةٌ عن البيان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المرادُ بالناس المشركون وهو الذي يُفصح عنه ما بعده، والمرادُ باقتراب حسابِهم اقترابُه في ضمن اقترابِ الساعةِ، وإسناد الاقترابِ إليه لا إلى الساعة مع استتباعها له ولسائر ما فيها من الأحوال والأهوالِ الفظيعة لانسياق الكلامِ إلى بيان غفلتِهم عنه وإعراضِهم عما يذكّرهم ذلك، واللامُ متعلقةٌ بالفعل، وتقديمُها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعةِ فإن نسبةَ الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويُورثهم رَهبةً وانزعاجًا من المقترِب، كما أن تقديمَ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ في قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَا في الأرض} لتعجيل المسرّة لما أن بيان كونِ الخلق لأجل المخاطَبين مما يسرّهم ويزيدهم رغبةً فيما خُلق لهم وشوقًا إليه، وجعلها تأكيدًا للإضافة على أن الأصلَ المتعارفَ فيما بين الأوساط اقترب حسابُ الناس ثم اقترب للناس الحسابُ ثم اقترب للناس حسابُهم مع أنه تعسفٌ تامٌّ بمعزل عا يقتضيه المقامُ وإنما الذي يستدعيه حسنُ النظام ما قدمناه والمعنى دنا منهم حسابُ أعمالِهم السيئةِ الموجبة للعقاب، وفي إسناد الاقترابِ المنبىءِ عن التوجه نحوَهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يُعتبرَ التوجّهُ والإقبالُ من جهتهم نحوه من تفخيم شأنِه وتهويلِ أمره ما لا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيءٍ مقبلٍ عليهم لا يزال يطلُبهم ويصيبهم لا محالة، ومعنى اقترابِه لهم تقارُبُه ودُنوُّه منهم بعدَ بُعدِه عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقربُ إليهم منه في الساعة السابقة.
هذا وأما الاعتذارُ بأن قربَه بالإضافة إلى ما مضى من الزمان أو بالنسبة إلى الله عز وجل أو باعتبار أن كلَّ آتٍ قريبٌ فلا تعلُّقَ له بما نحن فيه من الاقتراب المستفادِ من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصلِ معناه، نعم قد يفهم منه عُرفًا كونُه قريبًا في نفسه أيضًا فيصار حينئذ إلى التوجيه بالوجه الأول دون الأخيرين، أما الثاني فلا سبيلَ إلى اعتباره هاهنا لأن قربَه بالنسبة إليه تعالى مما لا يُتصوّر فيه التجددُ والتفاوتُ حتمًا، وإنما اعتبارُه في قوله تعالى: {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} ونظائرِه مما لا دَلالةَ فيه على الحدوث، وأما الثالثُ فلا دِلالةَ فيه على القرب حقيقةً ولو بالنسبة إلى شيء آخر.
{وَهُمْ في غَفْلَةٍ} أي في غفلة تامةٍ منه ساهون عنه بالمرة لا أنهم غيرُ مبالين به مع اعترافهم بإتيانه، بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولهم أن الأعمالَ لابد لها من الجزاء {مُّعْرِضُونَ} أي عن الآيات والنذرُ المنبّهة لهم عن سِنَة الغفلة، وهما خبران للضمير وحيث كانت الغفلةُ أمرًا جِبِلّيًا لهم جُعل الخبرُ الأول ظرفًا منبئًا عن الاستقرار بخلاف الإعراض، والجملةُ حالٌ من الناس، وقد جُوّز كونُ الظرف حالًا من المستكن في معرضون.
{مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ} من طائفة نازلةٍ من القرآن تذكّرهم ذلك أكملَ تذكيرٍ وتنبّههم عن الغفلة أتمَّ تنبيهٍ، كأنها نفسُ الذكر ومن في قوله تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} لابتداء الغايةِ مجازًا متعلقةٌ بيأتيهم أو بمحذوف هو صفةٌ لذكر، وأيًا ما كان ففيه دِلالةٌ على فضله وشرفِه وكمالِ شناعةِ ما فعلوا به، والتعرضُ لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع {مُّحْدَثٍ} بالجر صفةٌ لذكر، وقرىء بالرفع حملًا على محلّه أي محدَثٌ تنزيلُه بحسب اقتضاءِ الحكمةِ وقوله تعالى: {إِلاَّ استمعوه} استثناءٌ مفرَّغٌ محلُّه النصبُ على أنه حالٌ من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور وقوله تعالى: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حالٌ من فاعل استمعوه وقوله تعالى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} إما حالٌ أخرى منه أو من واو يلعبون والمعنى ما يأتيهم ذكرٌ من ربهم محدَثٌ في حال من الأحوال إلا حالَ استماعِهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه، أو لاعبين به حالَ كون قلوبِهم لاهيةً عنه لتناهي غفلتِهم وفرْطِ إعراضِهم عن النظر في الأمور والتفكرِ في العواقب، وقرىء {لاهيةٌ} بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبر {وَأَسَرُّواْ النجوى} كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان جنايةٍ خاصة إثرَ حكايةِ جناياتهم المعتادة، والنجوى اسمٌ من التناجي ومعنى إسرارِها مع أنها لا تكون إلا سرًّا أنهم بالغوا في إخفائها أو أسروا نفسَ التناجي بحيث لم يشعُر أحدٌ بأنهم متناجون وقوله تعالى: {الذين ظَلَمُواْ} بدلٌ من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به، أو هو مبتدأٌ خبرُه أسروا النجوى قُدّم عليه اهتمامًا به، والمعنى هم أسرّوا النجوى فوُضِع الموصولُ موضعَ الضمير تسجيلًا على فعلهم بكونه ظلمًا أو منصوبٌ على الذم وقوله: {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ}..إلخ، في حيّز النصبِ على أنه مفعولٌ لقول مضمرٍ هو جوابٌ عن سؤال نشأ عما قبله كأنه قيل: ماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل: قالوا هل هذا..إلخ، أو بدلٌ من أسرّوا أو معطوفٌ عليه أو على أنه بدلٌ من النجوى، أي أسروا هذا الحديثَ وهل بمعنى النفي والهمزة في قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السحر} للإنكار والفار للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} حال من فاعل تأتون مقرِّرة للإنكار ومؤكدةٌ للاستبعاد، والمعنى ما هذا إلا بشرٌ مثلُكم أي من جنسكم وما أتى به سحرٌ، أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضُرونه على وجه الإذعان والقَبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغِ أن الرسولَ لا يكون إلا ملَكًا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر، وزل عنهم أن إرسالَ البسر إلى عامة البشر هو الذي تقتضيه الحكمةُ التشريعية قاتلهم الله أنى يؤفكون، وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيقِ العهدِ وترتيب مبادي الشرِّ والفساد وتمهيدِ مقدمات المكرِ والكيد في هدم أمرِ النبوة وإطفاءِ نورِ الدين والله متمٌّ نورَه ولو كره الكافرون. اهـ.

.قال الألوسي:

{اقترب لِلنَّاسِ حسابهم}.
روي عن ابن عباس كما قال الإمام، والقرطبي. والزمخشري أن المراد بالناس المشركون ويدل عليه ما ستسمعه بعد إن شاء الله تعالى من الآيات فإنها ظاهرة في وصف المشركين، وقال بعض الأجلة: إن ما فيها من قبيل نسبة ما للبعض إلى الكل فلا ينافي كون تعريفه للجنس، ووجه حسنه هاهنا كون أولئك البعض هم الأكثرون وللأكثر حكم الكل شرعًا وعرفًا.
ومن الناس من جوز إرادة الجنس والضمائر فيما بعد لمشركي أهل مكة وإن لم يتقدم ذكرهم في هذه السورة وليس بأبعد مما سبق، وقال بعضهم: إن دلالة ما ذكر على التخصيص ليست الأعلى تقدير تفسير الأوصاف بما فسروها به، ويمكن أن يحمل كل منها على معنى يشترك فيه عصاة الموحدين ولا يخفى أن في ذلك ارتكاب خلاف الظاهر جدًّا، واللام صلة لاقترب كما هو الظاهر وهي بمعنى إلى أو بمعنى من فإن {اقترب} افتعل من القرب ضد البعد وهو يتعدى بإلى وبمن، واقتصر بعضهم على القول بأنها بمعنى إلى فقيل فيه تحكم لحديث تعدى القرب بهما، وأجيب بأنه يمكن أن يكون ذلك لأن كلًا من من وإلى اللتين هما صلتا القرب بمعنى انتهاء الغاية إلا أن إلى عريقة في هذا المعنى ومن عريقة في ابتداء الغاية فلذا أوثر التعبير عن كون اللام المذكورة بمعنى انتهاء الغاية كالتي في قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] القول بأنها بمعنى إلى واقتصر عليه، وفي الكشف المعنى على تقدير كونه صلة لاقترب اقترب من الناس لأن معنى الاختصاص وابتداء الغاية كلاهما مستقيم يحصل به الغرض انتهى، وفيه بحث فإن المفهوم منه أن يكون كلمة من التي يتعدى بها فعل الاقتراب بمعنى ابتداء الغاية وليس كذلك لعدم ملاءمة ذلك المعنى مواقع استعمال تلك الكلمة فالحق أنها بمعنى انتهاء الغاية فإنهم ذكروا أن من يجىء لذلك، قال الشمني: وفي الجني الداني مثل ابن مالك لانتهاء الغاية بقولهم تقربت منه فإنه مساو لتقربت إليه، ومما يشهد لذلك أن فعل الاقتراب كما يستعمل بمن يستعمل بإلى، وقد ذكر في معاني من انتهاء الغاية كما سمعت ولم يذكر أحد في معاني إلى ابتداء الغاية والأصل أن تكون الصلتان بمعنى فتحمل من على إلى في كون المراد بها الانتهاء، وغاية ما يقال في توجيه ذلك أن صاحب الكشف حملها على ابتداء الغاية لأنه أشهر معانيها حتى ذهب بعض النحاة إلى إرجاع سائرها إليه وجعل تعديته بها حملًا على ضده المتعدي بها وهو فعل البعد كما أن فعل البيع يعدي بمن حملا له على فعل الشراء المتعدي بها على ما ذكره نجم الأئمة الرضي في بحث الحروف الجارة؛ والمشهور أن {اقترب} بمعنى قرب كارتقب بمعنى رقب، وحكى في البحر أنه أبلغ منه لزيادة مبناه والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه وهو الساعة، ووجه إيثار بيان اقترابه مع أن الكلام مع المشركين المنكرين لأصل بعث الأموات ونفس إحياء العظام الرفات فكان ظاهر ما يقتضيه المقام أي يؤتى بما يفيد أصل الوقوع بدل الاقتراب وأن يسند ذلك إلى نفس الساعة لا إلى الحساب للإشارة إلى أن وقوع القيام وحصول بعث الأجساد والأجسام أمر ظاهر بلا تمويه وشيء واضح لا ريب فيه وأنه وصل في الظهور والجلاء إلى حيث لا يكاد يخفى على العقلاء وأن الذي يرخي في بيانه أعنة المقال بعض ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب بل نفس وقوع الحساب أيضًا غني عن البيان لا ينبغي أن ترتاب فيه العقول والأذهان وأن الذي قصد بيانه هاهنا أنه دنا أوانه واقترب زمانه فيكون الكلام مفصحًا عن تحقق القيام الذي هو مقتضى المقام على وجه وجيه أكيد ونهج بديع سديد لا يخفى لطفه على من ألقى السمع وهو شهيد.